ألفة القتلة في الفن- من "الأب الروحي" إلى "وداعًا جوليا"

المؤلف: سعد القرش11.23.2025
ألفة القتلة في الفن- من "الأب الروحي" إلى "وداعًا جوليا"

إنّ الاستحسان الوجداني، والرأفة بالقتلة، هما من بين أخطر الآثار الجانبية، غير المقصودة، التي قد تترتب على الأدب والفنون بأنواعها. فالقتل الذي يتم بواسطة الأسلحة الذكية أو الكيماوية يكون بالغ الدقة ومحدد الأهداف. أما القتل الذي يرتكب باستخدام المسدسات أو المخدرات فيتراوح بين كونه محددًا أو عشوائيًا. وقد نجد أن تاجر المخدرات نفسه يبتعد عن تعاطيها، ويسعى إلى تبرئة ضميره بالتدين، مدعيًا جهله بضحاياه.

إن شخصية كمال، تاجر المخدرات الذي جسده الفنان القدير نور الشريف في الفيلم المصري الشهير "العار" (1982)، قد استطاعت أن تحظى بتعاطف جموع المشاهدين. لقد أشفقوا عليه أيما إشفاق، وكادوا يمدون أيديهم عبر الشاشة ليخففوا عنه حزنه العميق، وذلك لما ضاع من "شقاء عمره". ولكن هذا التعاطف قد أضلّ طريق أخوَيه: الطبيب الذي أصيب بلوثة عقلية، ووكيل النيابة الذي انتحر. كذلك، نال سعيد مهران نصيبًا وافرًا من هذا التعاطف، سواء لدى قراء رواية الأديب نجيب محفوظ "اللص والكلاب"، أو لدى مشاهدي فيلم المخرج كمال الشيخ المقتبس عنها. فسعيد مهران قد أزهق أرواحًا بريئة، ولكن التطبيع معه قد تجسد في إمداده بالسلاح وبمنحه الحب.

إن سعيد مهران يمثل شخصية المتمرد الجائع للانتقام. إنه لصٌّ تعرض للخيانة من قبل صديقه وزوجته. ولكن هل تبرر الخيانة للمجرم أن يقتل شركائه؟ وفي السنوات الأخيرة، نلاحظ أن العديد من الأعمال الفنية تتبنى -ولو عن غير قصد- مفاهيم انتقامية تؤدي في النهاية إلى الاستئناس بالدماء والتعود على وجود القتلة، وتطبيع وجودهم في المجتمع دون أن يثقل كاهلهم الشعور بالذنب، بدلًا من السعي إلى التطهر من الجريمة من خلال نيل العقاب العادل. فهل يمكن تحقيق غاية نبيلة بوسائل غير شريفة؟

ربما يكون الفيلم الأميركي "جوكر" هو الذروة في هذا التوجه، فقبل فوز بطله خواكين فينيكس بجائزة الأوسكار عام 2020، كان الفيلم قد حاز على جائزة الجمهور في مختلف أنحاء العالم. وفي مهرجان الجونة السينمائي السادس الذي أقيم في الفترة من 14 إلى 21 ديسمبر/ كانون الأول 2023، عُرضت أفلام تعمل على تطبيع عملية القتل، وسأكتفي هنا بذكر الفيلمين السوداني "وداعًا جوليا" والفرنسي "دوجمان".

خطورة تدمير الحاجز الفاصل بين الواقع والخيال

إن مشاهدة قاتل في فيلم سينمائي لا يمكن أن تمحو المسافة الشاسعة التي تفصل بين الواقع والخيال. فهناك اتفاق ضمني غير معلن على أن ما نشاهده ليس سوى "تمثيل". ولكن الخطورة تكمن في تدمير هذا الحاجز الفاصل، وعدم القدرة على التمييز بين ما يقود الآخر. وتصبح الكارثة حقيقية عندما يمتلك الفن، بفعل سحره الطاغي، شيئًا من الإلهام الإجرامي. إنه إلهام يتجاوز الأزمنة والثقافات. فمن كان يظن أن يكون مايكل كورليوني، الذي جسده الممثل القدير آل باتشينو في فيلم "الأب الروحي"، ملهمًا للرئيس العراقي الراحل صدام حسين؟

إنني أصدق تمامًا السيدة التي كانت ضيفة على صدام حسين في سنوات الحصار، والتي أخبرتني أنها سألته ذات مرة: "لماذا قتلت صهرَيْك، زوجَيْ ابنتيك؟". ولعلها كانت الكائن الوحيد الذي يمتلك القدرة على طرح هذا السؤال الجريء، ولعل الرجل المهيب قد شعر بصدقها، فأجابها بدلًا من أن يلحقها بالصهرَين: صدام كامل وشقيقه حسين.

لقد كان السؤال مفاجئًا، وكانت الإجابة صريحة وواضحة. فالاعتداد بالنفس الذي كان يتمتع به الرجل منعه من اللجوء إلى أساليب دبلوماسية تعفيه من المسؤولية. كان الكلام عفويًا للغاية، وقد تأكد لصدام أنها لن تفصح عنه، على الأقل طالما أنه يحكم العراق. وقد حدثتني بالإجابة بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، ولا أتذكر تحديدًا ما إذا كان ذلك قبل القبض على صدام أو خلال محاكمته.

على أية حال، كان صدام قد وصل إلى نهايته، ومعه العراق إلى حين. ولكن إجابة صدام تفيد بأنه كان يعتبر نفسه كبير العائلة، عائلة المجيد. وفي الأزمات تتقدم العشيرة على الوطن وتتوارى خلفها. فحتى رئيس الدولة يحتكم إلى قوانين أرباب العائلات. وقد قال للسيدة: "أحيانًا تفرض الضرورة على العائلة أن تضحي بفرد خائن من أجل الحفاظ على تماسكها". ثم سألها: "ألم تشاهدي فيلم "الأب الروحي"؟". إنه سؤال دالٌّ على أسوأ الآثار الجانبية التي يمكن أن تتركها الأفلام.

كان حسين كامل وشقيقه صدام ابني عم صدام حسين. وقد وصل الأول إلى منصب وزير التصنيع العسكري بصعود سريع ومفاجئ، بينما أصبح الثاني مسؤولًا عن الحرس الخاص بالرئيس. وتمكنا في عام 1995 من الفرار إلى الأردن بصحبة زوجتَيهما، وأعلنا انشقاقهما عن النظام، ومنحهما الملك حسين لجوءًا سياسيًا. وفي فبراير/ شباط 1996، نالا عفوًا رئاسيًا، وتعهد صدام بألا يمسهما أي سوء.

الوطن أم العائلة؟ ذلك هو السؤال الجوهري. ولكن لم يكن للوطن، بعد عودة الصهرَين، أي فائدة في قتلهما. كان صدام صريحًا وواضحًا، ولم يذكر للسيدة إلا دافع التماسك العائلي، من خلال التضحية بعضو تقرر أنه فاسد وخائن. لقد اهتدى صدام بشخصية آل باتشينو في نهاية الجزء الأول من فيلم "الأب الروحي"، حيث انتقم من أعدائه، ونظّف العائلة من الخونة فقتل زوج شقيقته.

جسور ممهدة للتطبيع مع القاتل

إن التطبيع العائلي مع القاتل، مايكل كورليوني، قد استغرق وقتًا طويلًا. ففي نهاية الجزء الأول من فيلم "الأب الروحي"، تصرخ كوني، التي جسدتها الممثلة تاليا شاير، في وجه أخيها مايكل، وتتهمه بقتل زوجها، فيطلب مايكل طبيبًا لعلاج انهيارها العصبي.

وفي الجزء الثاني، يأخذها النزق بعيدًا عن العائلة، في نوع من الطيش والاندفاع للهروب والنسيان. بينما يحكم مايكل قبضته على شؤون العائلة، ويقرر التخلص من أخيه فريدو، الذي جسده الممثل جون كازال، وذلك لخيانته العائلة، وتفضيله أحد أعدائها. وفي الجزء الثالث، تنسى كوني أن أخيها قد قتل زوجَها، وتستبدل بألمها الشخصي القديم إيمانًا راسخًا بالعائلة، حتى إنها توفر غطاءً أخلاقيًا لمايكل، قائلة إن "موت" شقيقهما فريدو كان من إرادة الله، بل إنها تقتل العم ألتوبيلو، الذي جسده الممثل إيلاي والاك، بدسّ السمّ له في الحلوى. فمن منا لا يحب مايكل كورليوني؟

يمكننا القول إننا جميعًا نحبه تقريبًا. وحتى لو كرهنا هذه الشخصية، فإننا لا نملك إلا أن نشيد بقدرة آل باتشينو الفائقة على تقمّص التحولات الدرامية التي طرأت على هذه الشخصية، من شاب وديع إلى وحش كاسر يجيد فنون الانتقام. إن شخصيته تأسرني وتسيطر عليّ، حتى إنها احتلت مساحة كبيرة من هذا المقال الذي لا يستهدف الاستعراض "التاريخي" للأفلام السابقة على مهرجان الجونة السينمائي 2023. فأي مهرجان سينمائي هو بمثابة مرآة تعكس مشهدًا إنسانيًا أكثر عمقًا من مجرد عرض الأفلام، وليس من قبيل المصادفة أن نجد في هذا المهرجان أفلامًا أجنبية وعربية تعمل على توطين القاتل، وتمد جسور التطبيع معه. فالفن، بهذا المعنى، يرسخ اعتياد القتل، واعتباره وجهة نظر مصحوبة بأسباب وقوعه. وفي قسم "نافذة على فلسطين" عُرض فيلم "الأستاذ" للمخرجة الفلسطينية فرح نابلسي. ومن المتوقع أن نجد مستوطنًا صهيونيًا قاتلًا تبرّئه المحكمة، المحكمة وليس "العدالة".

حتمية التقسيم والانفصال

يحمل الفيلم السوداني "وداعًا جوليا"، للمخرج محمد كردفاني، دلالة عميقة لم يتوقف أمامها أحد، في حدود متابعتي. يبدأ الفيلم بأحداث شغب واضطرابات، وذلك بعد مقتل الزعيم الجنوبي جون قرنق، النائب الأول للرئيس السوداني عمر البشير، في نهاية شهر يوليو/ تموز من عام 2005، وينتهي بعد الاستفتاء على انفصال جنوب السودان عام 2011.

كان سلفاكير، في تلك الفترة، يتحدث عن الوحدة الجاذبة، أما الفيلم فيؤكد بالدراما حتمية الانفصال والتقسيم. ففي الخرطوم، حيث تدور معظم الأحداث، تظهر مظاهر وعوامل عديدة تؤدي إلى اختيار الجنوبيين خيار الانفصال. فالجنوبيون يعانون من الفقر المدقع والأمية، والدولة غائبة تمامًا عنهم، ولا ينالون أي نصيب من العدالة الاجتماعية، إلا في صورة إحسان مرتبط بتكفير الذنب، وهو ما تجسده المغنية المعتزلة منى، التي جسدتها الممثلة إيمان يوسف، تجاه جوليا الجنوبية، التي جسدتها الممثلة سيران رياك.

إن حرمان جوليا المسيحية من حقوق المواطنة الأساسية، يقابله حرمان نوعي تتعرض له منى، حيث أجبرها زوجها أكرم، الذي جسده الممثل نزار جمعة، على التخلي عن الغناء، ويراقب سلوكها وتصرفاتها باستمرار. فأكرم رجل متدين، ولكنه ذو نزعة عنصرية استعلائية على الجنوبيين. وذات مرة، صدمت منى بسيارتها طفلًا صغيرًا وهربت من مكان الحادث، فلحق بها والد الطفل بدراجته النارية. وعندما وصلت إلى البيت، لم ينتظر زوجها أن يعرف سبب المطاردة، فسارع إلى إطلاق النار على الجنوبي، وبفضل نفوذه ومساعدة جاره، تمكن من إثبات أن القتل كان دفاعًا عن النفس.

ولكن الزوجة تشعر بتأنيب الضمير والذنب، فتقوم بافتعال مصادفة لمساعدة جوليا، ثم تأتي بها إلى منزلها. وتقنع منى زوجها بإقامة جوليا في البيت كخادمة، ثم تلحق ابنها بمدرسة خاصة وتتكفل بجميع المصاريف. ولكن الزوج يستنكر تباسطها الزائد مع جوليا، ويقول لها: "جوليا هي خادمتك وليست صديقتك!".

غليان داخلي صامت

لقد كرست السينما المصرية منطقًا شعبويًا سطحيًا يقول: "كلنا ضحايا". وهو مفهوم مراوغ وملتوٍ يمثل للمخطئ حصان طروادة، ويعفيه من الشعور بوطأة الجريمة. ولكننا نجد هنا قاتلًا يعرف تمام المعرفة أنه قاتل، وزوجته تعلم أنه يعلم أنه قاتل. وفي لحظة من الصراحة والمكاشفة، تواجه منى زوجها بأن القتل لم يكن دفاعًا عن النفس، وتسأله لماذا لم يطلق النار في الهواء أو على قدم الجنوبي؟

وفي الوقت نفسه، كانت جوليا تتظاهر بالبحث عن زوجها "الغائب"، بينما هي تعلم أنها تقيم كخادمة في بيت قاتل زوجها. إنه غليان داخلي صامت، مكبوت ومختنق، ينتظر لحظة الانفجار، وقد جاءت هذه اللحظة المنتظرة عبر صناديق الاقتراع في الاستفتاء على الانفصال. فجوليا التي تعلمت القراءة والكتابة رفضت الانفصال، أما ابنها الصبي "داني" فقد ارتدى الزي العسكري وحمل السلاح.

في مهرجان الجونة السينمائي، منحت مجلة فارايتي الأميركية مخرج فيلم "وداعًا جوليا"، محمد كردفاني، جائزة أفضل موهبة عربية صاعدة في منطقة الشرق الأوسط. وفي ختام المهرجان، فاز الفيلم بجائزة سينما من أجل الإنسانية، وهي جائزة الجمهور.

إن فيلم "من أجل الإنسانية" يحمل مغزى خطيرًا، فهو يسمح للقاتل بالعيش في سلام واطمئنان، بينه وبين نفسه، ومع أهله وجيرانه، وبين أصحاب الدم العاجزين عن تحمل تكلفة التقاضي والمحاكم، وذلك في ظل ظرف عام ضاغط لا يسمح للفقراء بمثل هذا "الترف".

لقد اهتم المشيدون بالفيلم بالقضايا الكبرى: الوحدة والانفصال، الثراء والفقر، الحرب الأهلية في غياب معنى الدولة. ولكن في الغبار المتصاعد الناتج عن هذه الحرائق الهائلة، غاب البعد الإنساني الحقيقي، وحمل الفيلم رسالة ضمنية لا تستبعد التطبيع مع القاتل.

التصفيق الحار للقاتل!

أما فيلم "دوجمان" فهو أكثر خطورة وتأثيرًا من فيلم "وداعًا جوليا". وللمرة الأولى في حياتي، وبعد حضور العشرات من المهرجانات السينمائية المختلفة، أشاهد فيلمًا مرتين متتاليتين.

هذا الفيلم الذي قام بكتابته وإخراجه المخرج الفرنسي القدير لوك بيسون، هو فيلم ساحر بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فهو يدعو المشاهد إلى التصديق بكل ما يراه، بل إلى ما هو أبعد من مجرد التعاطف، وإلى التصفيق بحرارة لقاتل لا يملك أي عذر سوى أنه عانى من ظلم الأب وقسوة الأخ الأكبر. فكلاهما، الأب والأخ، قد شارك في نبذ الصبي دوجلاس، وحبسه في قفص الكلاب، حتى إن أباه أطلق عليه النار وهو داخل القفص، ولم ينقذه من الموت المحقق إلا الكلاب التي فضّل صحبتها على صحبة أسرته. وقد أصابته الرصاصة بالشلل في ساقَيه، فخرج من قفص الكلاب ليقبع في قفص الكرسي المتحرك. وقد حكم على الأب والأخ بالسجن، ولكن الأب سرعان ما انتحر، بينما قضى الأخ ثماني سنوات خلف القضبان.

وعندما خرج الأخ من السجن، كانت كلاب دوجلاس في انتظاره، والتي جسد دوره الممثل الأميركي كاليب لاندري جونز في أداء استثنائي ومبهر. ولكن قتل الأخ لم يكن كافيًا لإشباع رغبة دوجلاس في الانتقام، فأطلق كلابه لسرقة الأثرياء، وذلك بحجة إعادة توزيع الثروة على الفقراء والمحتاجين، ويتكرر تكليف الكلاب بمهام إجرامية كالقتل، ومهام أخرى تبدو عادلة في ظاهرها، مثل ردع أحد البلطجية عن إزعاج أرملة مسكينة.

إن جرح دوجلاس كان عميقًا وغائرًا، ولم يستطع أن يداويه أي حب عابر من فتاة علمته القراءة والكتابة، وحببت إليه أعمال شكسبير الخالدة، حتى إنه حفظ مسرحياته عن ظهر قلب، واستطاع أن يؤدي جميع الشخصيات ببراعة وإتقان، وقدم فقرات غنائية راقصة في أحد الملاهي الليلية.

إنه فيلم كبير وعظيم، وهو ثمرة فلسفة عميقة يحملها حوار مكتوب بدقة وإقناع، وبين قوسَي البداية القاسية والنهاية المتفائلة المبهجة، ينسى المشاهد تمامًا أن القتل ليس له أي اسم آخر سوى القتل. وينتهي الفيلم بدوجلاس واقفًا في ساحة واسعة، يفرد ذراعَيه على خلفية ظلٍّ كبير يمثل الصليب.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة